أريد كل شيء
2023-05-25 12:56:50 قصص و حكايات ...
تعظيم سلام
أتاح لي ركوب قطار أبي قير ثمان صيفيات متتالية, تكوين بانوراما متكاملة عن الباعة الجائلين وعن المتسولين فيه. فأنا أراهم سنويا منذ ثمانٍ سنوات. منهم مَن ظل القطار محل أكل عيشه ومنهم من اختفى.
في ذلك العام ظهر بائعٌ متجولٌ جديد. كان شابا ثلاثينيا قعيدا بُتِرَتْ ساقاه ويده اليسرى. تُرى ما تلك الحادثة الشنيعة التي فعلت به هذا؟ هل مرت عليه دبابة؟. كان وجهه صارم المعالم كأنه جندي وتبدو عليه أمارات الذكاء, وكان يبيع كروت ووصلات شحن وسماعات الموبايلات. سبحان الله... غيره ممن عاهاتهم أبسط من هذا بكثير يتسولون الناس. بل منهم من يعرض عاهته ليستدر بها الإحسان.
الحقُّ أني أكبرتُ هذا الشاب لثلاث شيم؛ فهو لم ييأس ولم يستسلم, وهو يكسب اللقمة الحلال, ثم هو ذو زوقٍ راقٍ في اختيار سلعته التي يبيع. عادة ما يبيع هؤلاء المناديل الورقية, ولكنّ أعجبني من هذا الشاب أنّ بضاعته نوعية. كان يفترش كرتونة سميكة ويزحف بيمناه بينما كروت الشحن تحت إبطه الأيسر وأسلاك سماعات الهاتف تلتف حول عنقه.
في يوم آخر, كنتُ أستقلُّ بمقعدٍ بنهاية العربة. ظهر بائع الكروت في أول العربة وأخذ يخترق الازدحام بإصرار ويبيعُ بِضاعتًه ذات اليمين وذات الشمال. فلما وصل إليّ بششت له وكأنني أهمُّ بقول شيء, فتهللَ وجهُهُ ظانا أني سأبتاعُ منه, ولكني قلتُ له:
أنا عايز أقولك حاجة....
ثم أديتُ له التحيةَ العسكريةَ المعروفة قائلا:
تعظيم سلام عشانك.
فوجئ الشاب بما فعلتُ وصمتَ لبرهة لا يعرف ماذا يقول, ولمِعتْ عيناه وارتفعت رأسه في شموخ ثم سألني متطلعا إلى إجابتي:
ليه عملت كده؟
إكبارا لك وتحيةً. أنت شابٌ مكافح تأكل من عرق جبينك.
ارتسمتْ فوق وجهه تعبيراتٌ تريد أن تنفرطَ إلى كلمات ولكنه اكتفى بهز رأسه متحسرا وقال:
ده احنا كنا......
ولم يكمل. فدعوت له بخير, وزحف هو مُكملا طريقه.
طيلة عامين بعد ذلك لم أرَ بائع كروت الشحن البتة.
وفي هذا العام فوجئت به على رصيف محطة أبي قير وهو على كرسي متحرك. سار بالكرسي حتى باب العربة, ثم نزل عن كرسيه حيث رفعه له أحد الركاب إلى داخل القطار, ثم ركب هو معتمدا على ذراعه السليم. ثم نزل بنفس الطريقة في محطة باكوس فقررت أن أتبعه عَلَّي أعرفُ سببَ اختفائه المدة السابقة.
نزل من الرصيف بكرسيه المتحرك عبر الممر المنحدر المُعدِّ لذلك, ثم سار عبر شارع السوق قليلا إلى حيث دكانٍ صغيرٍ لا تزيد مساحته عن متر مربع واحد مندسٍّ بين سلسلة محلات صُفَّتْ في صف ملاصق لسور المحطة. نزل عن كرسيِّه وفتح قفل باب المحل ثم دفعه دفعةَ قويةَ لأعلى جعلته يتراجع مطويا حول نفسه كأنه يوسع له الطريق احتراما.
انتظرتُ ريثما بدأ بمباشرة عمله.
كان دكانا لبيع كل متعلقات التليفون المحمول. غمرني شعور جارف بالسعادة لِما أرى. تقدمتُ إليه وطلبت شُحنةً بعشرة جنيهات, وأخذت أتفقد بنظري محتويات الدكان. أمسك بجهاز الشحن ووضعه على طاولةٍ أمامه وهو يتطلَّعُ إلى وجهي باهتمام بينما ألقِّنُهُ رقم هاتفي. أخرجتُ عشرةَ جنيهاتٍ من جيبي ودفعتُ بها إليه مبتسما ابتسامة عريضة, ولكنه رفض رفضا باتاً أن يأخذ مني المال, وحاولت إثناءه قدر ما أستطيع ولكن لم تُفلح جهودي معه شيئا. كانت مُفاجأةً لي, فشكرتُهُ, ولما هممتُ بالانصراف رفع يده السليمة وحيّاني بتعظيم سلام صامت مع ابتسامة طموحة, فمضيتُ والإحراج يغمرني.
نحن نقدر تعاونك
من فضلك اختر نوع التجاوز
شاهد ايضا
اكتب تعليق